كتبت: سارة هليل
في أعماق جبال وسهول منطقة عسير، تصنع الطبيعة واحدة من أعظم تحفها الجيولوجية؛ حيث تقف “الأعمدة البازلتية” شاهدة على تاريخ بركاني موغل في القِدم. هذه التكوينات الصخرية المذهلة، التي لم تنحتها يد الإنسان، بل شكّلتها ملايين السنين من تدفقات الحمم البركانية، تتخذ أشكالاً هندسية غاية في الدقة، تتراوح أضلاعها بين السداسي والخماسي والرباعي، في مشهد يجمع بين الجمال الطبيعي والدهشة العلمية.
تُعد هذه الأعمدة من أندر الظواهر الجيولوجية في المملكة، حيث تتكون من صخور البازلت البركانية التي بردت ببطء، ما أدى إلى انكماشها وتشققها عمودياً بزوايا منتظمة، مشكلة تكوينات عمودية تُبهِر الزوّار وعشاق علم الأرض. وتنتشر هذه الأعمدة في عدة مواقع بعسير، منها محافظة محايل، ووادي يعوض في الحرجة (جبل مشرف)، و”قرن مُجعل” قرب تندحة، ووادي العسران، والساحل بين القحمة والبرك، ضمن نطاق سلسلة الجبل الأسود.
وتُعرف هذه التكوينات منذ القدم، إذ أشار إليها الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب” ضمن سلسلة “سراة جَنْب”، الممتدة من شمال ظهران الجنوب إلى شمال سراة عبيدة، وهي المعروفة اليوم باسم “حرة السراة”، والتي تغطي نحو 700 كم² وتضم قمماً شاهقة كجبل فرواع بارتفاع 3004 أمتار وجبل ظلم بارتفاع 2575 متراً.
وتختلف ألوان الأعمدة البازلتية بحسب تركيبها المعدني والكيميائي، فتميل في الغالب إلى اللون الأسود، وقد تظهر بألوان رمادية أو بنية مائلة إلى الحمرة بسبب وجود معادن مثل الأوليفين والبيروكسين. كما تتشابه هذه الظاهرة مع مواقع جيولوجية عالمية مثل “بوابة العمالقة” في أيرلندا، ومنتزه يلوستون في أمريكا، بالإضافة إلى مواقع في تركيا وآيسلندا.
من الناحية العلمية، تعود هذه الأعمدة إلى نشاط بركاني يعود إلى ما يقارب 30 مليون سنة، وتوجد في الحرات البركانية غرب المملكة مثل حرة البرك. وتشبه في تكوينها تشققات الطين عند الجفاف، لكن في الصخور النارية، وتُرصد أحياناً في أنواع أخرى من الصخور مثل الأنديزيت، التراكيت، والريوليت.
ويُنظر إلى هذه التكوينات على أنها ليست فقط معلماً جيولوجياً مميزاً يجذب المهتمين بالعلوم والطبيعة، بل تمثل أيضاً فرصة واعدة لتطوير السياحة البيئية في عسير، بما في ذلك إدراجها ضمن مسارات السياحة الجيولوجية.
كما يرى باحثون في السياحة الجيولوجية أن هذه التكوينات تحمل بعداً تاريخياً كذلك، خاصة الأعمدة التي تضم نقوشاً قديمة كما هو الحال في قمة “قرن القاعة”، ما قد يشير إلى وجود تجمعات بشرية أو حضارات قديمة في تلك المواقع، ويجعل منها كنزاً طبيعياً وتراثياً يستحق الاهتمام والبحث والتطوير السياحي والعلمي.