كتبت: سارة هليل
ليست كل المعالم تُروى بحكاية، وليست كل الحكايات تُنسج من حجارة. لكن جامع السلطان قابوس الأكبر، ذاك الكائن بهدوئه وهيبته في قلب مسقط، يروي بصمته ألف قصة عن حضارة، وإيمان، وعبقرية معمارية جعلت منه أحد أعظم صروح الإسلام المعاصر. هو ليس فقط مكانًا للصلاة، بل سيمفونية فنية وموسوعة من التفاصيل التي تأسر البصر والبصيرة.
بدأت القصة في عام 1995، حين أمر السلطان قابوس بن سعيد “رحمه الله” بتشييد جامع يليق بروح عُمان وهويتها. واستمرت الرحلة ست سنوات من الإبداع الهندسي والبناء المتقن، حتى فتح أبوابه في الرابع من مايو عام 2001، على مساحة شاسعة تبلغ 933,000 متر مربع، منها أكثر من 416,000 متر مربع مطورة بعناية، تحتضن مركزًا دينيًا وثقافيًا ينبض بالحياة.
الحديقة: حيث يتنفس الجمال
شرق الجامع، تمتد حديقة أشبه بلوحة فنية مستوحاة من عبق الحدائق الإسلامية، ألوانها الزاهية ونباتاتها المنتقاة تعزف لحناً من السكينة، بينما ينساب جدول ماء مستلهم من نظام الأفلاج العُماني، يبدأ من نافورة المقصورة ويتفرع بهدوء شمالًا وجنوبًا، في انسجام بصري يُغني الروح. أما مقصورة الحديقة، فهي تحفة تجمع بين الانفتاح والانغلاق، تمنح الزائر تجربة تأملية فريدة بين الطبيعة والمعمار.
مصلى يتنفس الفخامة والإيمان
في قلب الجامع، يقف المصلى الرئيس كتحفة فنية تتّسع لنحو 6500 مصلٍ، يعلوه سقف خشبي من خشب الساج البورمي، نُقش بأروع الزخارف الإسلامية وخطوط القرآن بالثلث. من بين 35 ثريا تتدلى من السقف، تتصدر المشهد ثريا مذهلة مسجلة عالميًا، بطول 14 مترًا ووزن 8 أطنان، تحمل 1122 مصباحًا وتلمع بكريستال سواروفسكي النمساوي، لتمنح المصلى وهجًا لا يُنسى.
سجادة من الخيال
فوق الأرضية، تمتد سجادة فريدة بحجمها وقصتها. نُسجت يدويًا في نيشابور الإيرانية خلال أربع سنوات، شاركت فيها 600 امرأة متخصصة. مؤلفة من 1.7 مليار عقدة، تغطي مساحة تزيد عن 4200 متر مربع، وتزن 21 طنًا. تدمج 28 لونًا طبيعيًا صُنعت من الأصباغ النباتية، جمعت من 58 قطعة لتشكل سجادة واحدة، وكأنها بساط من زمن ألف ليلة وليلة.
منبر من الرخام وروح من اللبان
يعلو المنبر وسط المصلى بهيبة، مصنوع من رخام “البيانكوبي” الأبيض، ينسجم مع تفاصيل الجامع الفخمة. أما الخانات المحيطة، فليست مجرد فتحات تهوية، بل تنشر عبير اللبان العُماني وتضم مصاحف مميزة بالألوان لتسهيل اختيار المصلين بين المجزأة والكاملة.
أروقة تغتسل بالضوء والماء
الأروقة الشمالية والجنوبية تؤدي دور أماكن الوضوء، بطول 221 مترًا داخليًا، وتضم أربع ميضات في الجنوب، تتوسطها نافورات تتدفق تحت قباب خشبية مثمنة، تسمح للضوء الطبيعي بأن يُعانق الماء. صنابير تعمل بالاستشعار الذكي لتخدم 365 شخصًا في وقت واحد، تحت قباب مستوحاة من مسجد بلاد بني بوعلي العريق.
مكتبة… ليست كأي مكتبة
بين جدران الجامع، تنتصب مكتبة تُعد منارة علمية عصرية، بمساحة 897 مترًا مربعًا، تضم أكثر من 20 ألف كتاب، وأجهزة حديثة، وغرف مطالعة مريحة. تُقدم خدمات للباحثين، من فهرسة إلكترونية إلى مصادر مرجعية وإنترنت مجاني، لتكون مركزًا للمعرفة في ثوب ديني وثقافي.
مركز المعلومات الإسلامية: بوابة للفهم والتواصل
في ركن آخر من الجامع، يعمل مركز المعلومات الإسلامية على تقديم الإرشاد والتوعية للمسلمين الجدد والمهتمين بالتعرف على الإسلام. لا يكتفي بالتعليم، بل يُمهد الطريق لاندماج روحي وثقافي، عبر برامج مدروسة تنشر المعرفة وتعمّق الفهم.
هنا، لا يقتصر دور الجامع على العبادة، بل يتحول إلى حوار صامت بين الإنسان والجمال، بين العمارة والإيمان، بين التراث والمستقبل. جامع السلطان قابوس الأكبر، ليس معلمًا يُزار، بل تجربة تُعاش وتُروى، ولا تتكرر.