بقلم هدى الشريف
لطالما حلم الإنسان بكسر قيود الجاذبية، بدءًا من محاولات عباس بن فرناس الجريئة في القرن التاسع، مرورًا بروايات جول فيرن الخيالية، وصولًا إلى التحول التاريخي خلال سباق الفضاء في الحرب الباردة. فقد حوّلت الصواريخ الباليستية التي طورها فيرنر فون براون من أدوات حرب إلى بوابات كونية، ومهدت طريق يوري جاجارين عام 1961 كأول إنسان يدور حول الأرض.
وعند مطلع الألفية، تجسد الحلم أخيرًا عندما دفع المليونير دينيس تيتو 20 مليون دولار لزيارة محطة الفضاء الدولية عام 2001، ليكتب اسمه كأول سائح فضاء في التاريخ.
اليوم، يتربع ثلاث عمالقة على عرش هذه الصناعة الناشئة. تقدم “فيرجن جالاكتيك” رحلات دون مدارية بتكلفة 250 ألف دولار ، تصل إلى ارتفاع 82.7 كم دون تجاوز خط كارمان الفاصل (100 كم). بينما تحلق “بلو أوريجين” بصواريخها “نيو شيبرد” إلى 107 كم بتكلفة سرية تقدر بملايين الدولارات. أما “سبيس إكس” فتتخصص في الرحلات المدارية المعقدة كمهمة “إنسپيريشن 4” عام 2021، رغم عدم الإفصاح عن تكلفتها الحقيقية التي تختلف عن التقديرات غير الموثقة (200 مليون دولار).
لكن وهج هذه الرحلات يخفي تحديًا بيئيًا مقلقًا. فإطلاق صاروخ واحد (فالكون 9) ينتج انبعاثات تعادل 395 رحلة طيران عابرة للأطلسي، بينما يلوث الوقود الصلب الستراتوسفير بجسيمات الكربون الأسود. ولحسن الحظ، تظهر حلول واعدة مثل صواريخ “نيو شيبرد” القابلة لإعادة الاستخدام وتطوير وقود الهيدروجين السائل الأقل تلويثًا.
على الصعيد الاقتصادي، تشير توقعات مؤسسة UBS إلى نمو السوق إلى 4 مليارات دولار بحلول 2030 . إلا أن هذا النمو يثير إشكاليات عميقة، أبرزها تفاقم اللامساواة بسبب التكاليف الفلكية، رغم أن هذه الاستثمارات خاصة ولا تنافس ميزانيات المساعدات الإنسانية. وتكشف استطلاعات الرأي (مثل Pew 2023) أن 67% من الأمريكيين يدعمون السياحة الفضائية شرط تقليل تأثيرها البيئي.
وفي الأفق، ترسم الابتكارات ملامح مستقبل ثوري. فشركة “أوريون سبان” تعدّ لمحطة فندقية تدعى “أورورا” بين 2025-2027، بينما قد تنخفض تكاليف الرحلات دون المدارية إلى 100 ألف دولار خلال العقد المقبل. وتعكف الشركات على تطوير صواريخ قابلة لإعادة الاستخدام بالكامل (تخفض التكاليف 30%) ووقود الميثان السائل ذي الانبعاثات الأقل، رغم تأجيل مشاريع كـ”dearMoon” القمري لـ”سبيس إكس”.
في الواقع تمثل سياحة الفضاء إحدى أعظم إنجازات البشرية، لكنها تفرض علينا مسؤولية مصاحبة. فنجاحها الحقيقي لن يُقاس بعدد الصواريخ المنطلقة، بل بقدرتنا على تخفيف بصمتها الكربونية عبر تقنيات إطلاق أنظف، وجعلها في متناول الطبقات المتوسطة عبر نماذج كالرحلات الافتراضية. وكما عبر أحد رواد الفضاء: “التحليق إلى النجوم يجب ألا يكون امتيازًا للأقلية، ولا أن يأتي على حساب الأرض التي ننطلق منها”.